أسدل الستار في ساعة متأخرة من ليلة السبت/الأحد الماضيين على فعاليات الدورة الرابعة لمهرجان موسيقى الصحراء الذي ترسخ موعدا فنيا كبيرا ينتظره سكان الرشيدية والمهتمون بفنون الإيقاع بشغف كبير في نهاية ربيع منذ أربع سنوات• المهرجان، الذي يسهر على إحيائه مركز طارق بن زياد، عرف تطورا كبيرا أملاه التراكم الكمي والنوعي الذي حققه منذ دورته الأولى•
وبذلك أصبح له مكان بارز بين المهرجانات التي يعرفها المغرب، ولم يكن هذا ليتأتى له لولا انطلاقه من رؤية واضحة تقوم على ركيزتين: أولهما نفض الغبار على الفنون الموسيقية الصحراوية وإعادة الاعتبار لها، في تنوعها واختلافها من بلد إلى آخر ومن جهة إلى أخرى• والثانية لفت الانتباه إلى ما تختزنه صحراء تافيلالت وواحاتها من إمكانيات طبيعية وبشرية تؤهلها لاستقطاب رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية• ومن هذه الناحية يمكن القول إن المهرجان نجح إلى حد الآن في التعريف بالجهة بشكل يجعلها تخرج، شيئا فشيئا، من دائرة النسيان والتهميش، إلى دائرة الاهتمام والمفكر فيه•
المنظمون في مركز طارق بن زياد لا يخفون هذه الرؤية التي تقوم على أهداف واضحة، ولذلك يصرون على أن يختاروا لكل دورة من دورات المهرجان شعارا يعكس تطلعاتهم إلى ما يمكن أن يسديه مهرجان موسيقى الصحراء من خدمات للفضاء وأهله• ولعل هذا سر نجاح هذه التظاهرة التي أصبحت تمتلك مناعة كبيرة أهلتها لتستمر ويتحسن أداؤها الدورة تلو الدورة• الشعار، الذي التأم حوله المهرجان في دورته الرابعة، كان من أجل تنمية السياحة في الواحات، وهو شعار يستمد أهميته من إحساس عميق لدى المنظمين في مركز طارق بما تكتنزه منطقة تافيلالت من رصيد سياحي تفصح عنه الطبيعة والتاريخ والفن•
وهذا ما حدا بهم إلى اختيار الكثبان الرملية بمرزوكة فضاء للمهرجان• والواقع أن هذا الاختيار ينطوي على نوع من المغامرة، إذا عرفنا أن مرزوكة تبعد عن مدينة الرشيدية بحوالي 150 كلم، وأن أقرب مركز حضاري لها وهو الريصاني يقع على بعد 40 كلم• ومع هذا، وربما من أجل هذا، ربح المنظمون الرهان، ففي كل ليلة من ليالي المهرجان الثلاث كانت الكراسي المخصصة للجمهور تملأ عن آخرها، ويبقى عدد كبير من الذين تكبدوا عناء السفر من الريصاني وأرفود والرشيدية ومن مناطق مختلفة من المغرب يتابعون فقرات السهرات واقفين•
ومن هنا كانت الفكرة القائلة إن موسيقى الصحراء ينبغي أن تسمع في فضاء صحراوي فكرة صائبة، فعندما تختلط إيقاعات الموسيقى بإيقاعات الفضاء نصبح أمام وقع خاص يجمع بين صفاء الصوت وصفاء المكان، في انسجام يحقق وحدة المكان والزمان•
ولكن الذي جعل كل ذلك الحشد من عشاق الموسيقى يحجون بالمئات إلى مرزوكة يكمن أيضا وأساسا في الفرق التي استدعيت للدورة الرابعة لمهرجان موسيقى الصحراء• وفيما يتعلق بهذه النقطة بالذات، فإن المنظمين اعتمدوا مقاييس جديدة في انتقاء الفرق المشاركة بالمقارنة مع الدورات السابقة• فإذا كان عدد الفرق قد عرف تقلصا، فإن المجموعات الموسيقية والغنائية التي ألهبت رمال مرزوكة هذه السنة قد تميزت بمسافتها مع الفلكلور الشعبي، وهي مسافة تزداد اتساعا مع كل دورة من دورات المهرجان الذي يبدو أنه بدأ يتحسس بعده العالمي، مما يضيف إليه بعدا آخر يتجلى في الحوار بين الثقافات عبر فنون الإيقاع•
وهكذا، فإن عالمية المهرجان تكمن في انتماء الفرق المشاركة فيه إلى جهات العالم الأربع: إفريقيا ممثلة بأنكولا ومالي وأوربا ممثلة بإسبانبا وفرنسا وأمريكا ممثلة بالبرازيل• هذا بالإضافة إلى المغرب• وقد كان مجموع الفرق المشاركة تسعا• وهكذا اسستضاف المهرجان في الأمسية الأولى فرقة أسياد السيمبا التي قدمت لوحات من الفلكلور المحلي القديم الذي تعد السامبا البرازيلية امتدادا له• كما عرفت هذه الأمسية تقديم فرقة الخملية لعروض فنية هي مزيج من الكناوي العتيق والألحان الأمازيغية• وأفسح المجال لفرقة محلية شابة لتعلن عن مواهب كل ما تحتاجه هو الرعاية والتشجيع• وفي الأمسية الثانية استمتع الجمهور بما قدمته المغنية الفرنسية فرانسواز أتلان من أغاني متعددة اللغات يجمعها اللحن الغرناطي الأصيل•
وتعد المغنية أتلان ظاهرة في حد ذاتها، فقد استطاعت أن توحد لغة الموسيقى وهي تتغنى بالسلام والحب بالعربية والفرنسية والعبرية• وكانت فرقة المسكوي التي قدمت من الرشيدية علامة بارزة في ما يمكن أن نسميه الفن الآخر، الذي لم نتعود على سماعه في وسائل الإعلام• والواقع أن لهذه الفرقة اجتهادات موسيقية ينبغي الاهتمام بها من حيث أنها تعكس بوضوح الوجه الإفريقي للموسيقى المغربية••• أما في اليوم الأخير فقد كان نجم المهرجان بلا منازع موري كانتي الفنان الإفريقي ذا الأصول المالية، فقد استطاع هذا الفنان، الذي تبين أن شريحة واسعة من الشباب المغربي يعرفونه، أن يحول مسار المهرجان بما يجعله محطة لا تنسى، ليس بما قدمه من أغان وإيقاعات تنم عن نضج فني كبير لا يقل عن الفنانين العالميين، ولكن كذلك بآرائه المتقدمة في التسامح والاختلاف والسلام العالمي، وبتقديره الكبير للمغرب والمغاربة• وبذلك يكون كانتي قد زاوج بين الوعي والفن•
وكان لفرقة الركبة وقع كبير بين من شاهدوها تلك الليلة المقمرة، وهي تمزج بين الكلمة والرقص، في حركة جماعية تعبر عن الفرح والألم وتنم عن إحساس عميق بتشخيص الحياة اليومية للإنسان الصحراوي• جدير بالذكر أن الليلة الأخيرة لم تتميز بالفرق التي أحيتها فقط، وإنما تميزت بجمهورها أيضا، وهو جمهور استغل عطلة نهاية الأسبوع كي يكتشف فضاء أخاذا، ولذلك حج الناس في تلك الليلة إلى مرزوكة قادمين من الرباط والدار البيضاء وفاس ومكناس وغيرها من المدن المغربية• إن ما يجمع الفرق المشاركة في الدورة الرابعة لمهرجان الصحراء هو أن جميع الفقرات الفنية التي قدمتها على مدى ثلاثة أيام تنم عن بحث عميق في التراث الموسيقى للصحراء• وقد أفضى البحث بكثير منها إلى إعادة اكتشاف هذا التراث بطريقة جعلته فنا معاصرا•
بهذا المعنى فإن ما تم تقديمه أثناء هذه الدورة يعد بحق روائع تجمع بين الماضي والحاضر والمحلي والعالمي في بوتقة واحدة تؤكد على تكامل العمل الموسيقي وتماسك بنائه• وقد يكون هذا من أسرار نجاح المهرجان في جلب جمهور عريض رغم بعد المكان• ذلك أنه يستجيب لأذواق وحساسيات فنية مختلفة دفعة واحدة• وإذا كان لمهرجان موسيقى الصحراء هذه القدرة على شحذ همم جمهور بتلك الكثافة التي حضر بها إلى الدورة الرابعة فإن ذلك من مظاهر خصوصيته التي تجعله في مقدمة المهرجانات التي يعرفها المغرب على طول السنة واختلاف المناطق
الاتحاد الاشتراكي - 2007/06/04
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire